“التكنلوجيا وصناعة الذاكرة”

د. محمد نعمه الغالبي

تشكل ذاكرة الانسان جانب مهم من جوانب شخصيته، اذ انها تسهم في تكوين معرفته وخبرته وقدرته على فهم المحيط وقراءته للأحداث وتحليلها، وإذا أردنا ان نصف مكونات الذاكرة، فيمكن وصفها بمثلث لا يخرج عن إطار حواس الانسان فيتكون من الملاحظة والمعايشة، والتربية والتعلم، والبحث والمطالعة.
🔺المعايشة والملاحظة
تبقى المواقف التي يتعرض لها الانسان في طفولته شاخصة في ذهنه، وتشكل ارثا كبيرا في مفاهيمه وقناعاته، إذ انها نقشت في ذاكرته البكر، وان كان يراها بعين الصغير التي ترى معظم الأشياء المحيطة به بصورة أكبر من حجمها، فطالما نلاحظ المتحدثين عن طفولتهم يصفون الأشخاص الذين عاصروهم آنذاك بأوصاف مبالغ فيها من حيث القوة وسطوة الموقف، والحذاقة والحصافة. وان كثير من القناعات التي يؤمنون بصحتها جاءت نتيجة ترسيخ تلك المفاهيم في الذاكرة البكر، من خلال المعايشة وملاحظة المحيط ابان تلك الفترة.
🔺التربية والتعليم:
تشكل أساليب التربية ركيزة أساسية في صناعة الذاكرة، اذ يتم رفد المتلقي بالعديد من الضوابط التي تتحول الى عادات ومن ثم الى سلوك متأصل في شخصيته، والتي بدورها تشكل العقل الواعي لديه، ويبدأ بتكوين قناعات تامة حول ثوابت يعتقد بها الى ان تدور حياته وجودا وعدما معها، وتختلف أساليب التربية، اذ انها تتأثر تأثرا بالغا بالبيئة المحيطة، فيما اذا كانت بيئة ريفية او حضرية، كما ان منسوب المد الديني والجو العقائدي فيها له تأثير مهم من خلال ممارسات الطقوس ورمزية الأماكن المعنية بهذا الخصوص، وكذلك فان لطبيعة النشأة الاجتماعية في البيئة الحضرية عدة سلوكيات تنهض كرموز رئيسة في ذاكرة الفرد. ولا تنفرد التربية لذاتها بصناعة هذا الجزء من الذاكرة بل يشكل التعليم الرديف المتمم لها، اذ ان بيئة التعلم تنبثق عن بيئة النشأة العامة، لذا تجد فيها المفاهيم منمقة ومصاغة ومهذبة بشكل اسلس للمتلقي، ومما يساعده على الايمان بها ايضاً العقل الجمعي المحيط به، على سبيل المثال ما يتلقاه التلاميذ في المدارس من أنشطة، فنشاهد مدرسة تقدم انموذجا يقرأ تواشيح دينية، وانموذجا لمدرسة اخرى يقدم احتفالا صاخبا على إيقاع أغاني شعبية، وكلاهما سيشكل جزءا من ذاكرة التلاميذ اللذين سيتحدثون عن حقبة أيامهم اليافعة فيما بعد.
🔺البحث والمطالعة:
عند تقدم العمر تتحول المعطيات المحيطة الى رتابة تقليدية، ولا يجد الفرد ما هو جديد سوى المتغيرات العامة والفوارق الفردية لذا ولكي لا يكون نمطياً يتجه الى البحث والمطالعة، والاخيرة اما ان تكون هادفة لتحقيق غاية معينة، كأن يكون مهتم بالأنساب والعشائر، او بالعقائد واختلاف المذاهب او التأريخ والسياسة، وبالتالي هو يعمل على صناعة ذاكرة معرفية ينتصر بها لقناعاته او يتبارى فيها في المجالس ضمن مساحة منازلاته ومساجلاته، ليسجل انتصارا لحظيا بمنازلة معرفية غير متكافئة، نتاجها نشوة آنية وتبختر شعبوي، او قد يكون البحث مختصا الغاية منه معرفية اكاديمية صرفة، فهو يسهم بصناعة الذاكرة المعرفية، وقد تكون المطالعة هواية أدبية فتسهم بصناعة ذاكرة أدبية ايضاً.
🔴ولما كانت ذاكرة الانسان تصنع بعمليات معقدة في الدماغ تتضمن التعلم والانتباه والتخزين والاسترجاع، فأن هنالك من يسعى جاهدا لصناعة ذاكرة مبتسرة لدى جيل كامل وذلك من خلال توظيف التكنلوجيا لتحل محل مثلث صناعة الذاكرة بأكمله، وتدور هذه الصناعة بين الترميز والتخزين والاسترجاع.
ولعل ما سبق يشكل الركائز التي تنشأ عنها الذاكرة التقليدية في مراحل ما قبل التكنلوجيا، لكن في عصر المعلومة المبتسرة والرمزيات ظهرت مفاهيم جديدة تسهم في تشكيل الذاكرة ولعلها تختزل في مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات الالكترونية الأخرى.
🔺اذ استبدلت تهويدة الطفل قبل الغفوة من رخامة أداء الام وارجحة الطفل في حجرها ((دللول يالولد يمة دللول .. الى مقطع موسيقي على تطبيق اليوتيوب .. الصيصان شو حلوين..)).
واستبدلت قصص الأنبياء وقصة الحطاب وليلى والذئب والاناشيد الفلوكلورية، التي ترسخ مفاهيم في الذاكرة البكر… الى سلسلة حلقات من برامج أداء دون مضمون معرفي تسودها الألوان والموسيقى كوسائل جذب الانتباه ضمن تطبيق اليوتيوب، لبرامج تسجل ملايين المشاهدات.. مثل .. نايا وسانتيا ولولو وشفا.. وغيرها)).
🔺واستبدلت العاب القوى والعاب المهارات والمواهب التي يتبارى فيها اليافعين والمراهقين، الى الألعاب الالكترونية مثل البوبجي واللودو..الخ.
🔺اما الشباب فأسهمت مواقع التواصل الالكتروني اسهاما كبيرا في تشكيل ذاكرتهم، اذ بدأ الفرد منهم عوضا عن قراءة كتاب ابتداءً من مقدمة المؤلف او المترجم الى الخاتمة، يستمع الى ملخص الكتاب بعشرين دقيقة من خلال تطبيقات الكترونية، وعوضا عن قراءة مؤلف للبحث التأصيلي يكتفي باجتزاء المعلومة المتوفرة على شبكة الانترنت، بواسطة الذكاء الصناعي.
🔺كذلك الوقائع التاريخية والاحداث المصيرية التي عصفت بالبلاد، فبالقدر الذي افتقرت به الى توثيق حقيقي، وان وجد فلم يحصل على الدعم الكافي لإيصاله لعامة الجمهور، فقد اشتغلت الاجندات بماكنات ممنهجة على انتاج مقاطع فديوية واجتزاء صور معززة بمقالات ترويجية، تبنت صفحات ناشطين لترويجها فأصبحت قادرة على قلب الحقائق، واسباغ البطولة على شخصيات لم يجني منها البلد سوى الدمار.
🔺 أصبحت صناعة الذاكرة الالكترونية فاعلة على مستوى الافراد من خلال توثيق وجودهم في محفل ما وادماج الاهازيج والمقاطع الحماسية، او التصوير امام يافطة مؤتمر او منتدى ومن ثم بعد انصراف الجمع التصوير على المنصة لدمج الصور مع بعض، والظهور بمظهر الخطيب او الباحث او المساهم.
نعم قد نكون مدركين لهذه الحقائق الان، و ان هذه الأساليب لا تنطلي على كثير من المتلقين في هذه المرحلة، لكن ماذا بعد عشرين عام..!
🔴سيتغنى الولد بأبيه، وسترسخ في الذاكرة الالكترونية العديد من الرموز والمفاهيم، وتقلب الحقائق، وسيحكم هذا الجيل على كثير من الوقائع والأمور وفق ذاكرته الالكترونية، التي تلقت المعلومات بطريقة مخملية هادئة طوال علاقته بالأجهزة الالكترونية، لذا تنهض الإشكالية الرئيسة التالية: كم أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في صناعة الذاكرة، وما هي المخاطر الناتجة عنها، وما هي وسائل الحد منها، وكيف يمكن توظيفها بطريقة إيجابية تحافظ على ديمومة الوعي العام. ما يستلزم البحث حول “الحماية القانونية للذاكرة”.

إغلاق