اعتيادية الخير والشرّ في رسم البطولة الاجتماعية

اللواء الدكتور
سعد معن الموسوي

حين نناقش طبيعة الخير والشر، لا نقف أمام ثنائية أخلاقية بسيطة، بل أمام ديناميات نفسية واجتماعية تحكم الفعل البشري في أكثر حالاته تجردًا. الإنسان ليس كيانًا ثابتًا يحمل جوهرًا أخلاقيًا غير قابل للتحول، بل هو كائن مرن، تتشكل أفعاله وفقًا للبيئة والسياقات التي تحيط به. الفكرة الرائجة التي تصور بعض الأفراد على أنهم يولدون أبطالًا وآخرون يولدون أشرارًا ليست سوى انعكاس لوعي ساذج يتجاهل البنية العميقة للسلوك الإنساني. لا توجد بطولة خالصة كما لا يوجد شر محض، بل هناك منظومات تُعيد تشكيل الإنسان وفقًا لظروفها. في المجتمعات التي تسود فيها العدالة، يصبح الخير عادةً، وحين تُشرعن القسوة، يتحول العنف إلى سلوك مبرر، وكلا الأمرين ليسا سوى نتائج لعملية تكوين معقدة.

أبرز النماذج التي تفسر هذا التحول جاءت من تجربة سجن ستانفورد التي قادها فيليب زيمباردو، حيث تم توزيع أدوار عشوائية على مجموعة من الطلبة، بعضهم صاروا سجّانين وآخرون تحولوا إلى مساجين. في غضون أيام قليلة، بدأ السجّانون بإظهار سلوك قمعي وعنيف، ليس لأنهم يحملون طبيعة شريرة، بل لأن المنظومة التي وُضعوا فيها أعادت تشكيل إدراكهم لأنفسهم وللآخرين. هذه التجربة كشفت أن الإنسان قد يتبنى أقسى أشكال العنف حين يُمنح سلطة بلا رقابة، لكنه قد يتحول إلى بطل حين يجد السياق الداعم لذلك. زيمباردو نفسه عاد لاحقًا ليبحث فيما سماه “اعتيادية البطولة”، مؤكدًا أن البطولة ليست حالة نادرة أو حكرًا على نخبة مختارة، بل يمكن أن تكون فعلًا يوميًا إذا وُجد الحافز الأخلاقي والسياق الذي يحثّ عليه. من هنا، يتبين أن الإنسان لا يتحرك في فراغ، بل يخضع لعمليات تشكيل مستمرة تفرضها بيئته.

ما يجعل الأمر أكثر تعقيدًا هو أن الشر نفسه قد يصبح حالة اعتيادية حينما يتم تسويغه داخل منظومة فكرية أو سياسية. هانا آرندت في تحليلها لمحاكمة أدولف إيخمان قدمت مفهوم “تفاهة الشر”، مؤكدة أن المجرمين الكبار ليسوا بالضرورة وحوشًا خارجين عن الطبيعة البشرية، بل مجرد أفراد عاديين تماهوا مع دورهم حتى فقدوا أي إحساس بمسؤوليتهم الأخلاقية. في السياق العراقي، يمكن رؤية هذا النموذج في بعض الذين انخرطوا في التنظيمات الإرهابية، ليس لأنهم أشرار بالفطرة، بل لأنهم وجدوا في المنظومة التي احتوتهم مبررًا لأفعالهم. وهنا، يبرز السؤال الجوهري: إذا كان الشرّ ينتشر حينما يُبرَّر، فكيف يمكن للخير أن يصبح هو الحالة الطبيعية؟

الإجابة لا تكمن في التنظير الأخلاقي، بل في بناء بيئة تُعيد تشكيل الانحياز البشري نحو القيم الإيجابية. المجتمعات لا تحتاج إلى انتظار أبطال خارقين لإحداث التغيير، بل إلى ترسيخ البطولة كسلوك يومي. في العراق، تجلت هذه الحقيقة بأوضح صورها خلال المعارك ضد داعش، حيث لم يكن العسكري الذي ضحى بحياته لإنقاذ رفاقه مجرد مقاتل ينفذ أوامر، بل كان نموذجًا لتحول الإنسان العادي إلى رمز للفداء. لم يكن ذلك وليد لحظة عابرة، بل نتاج ثقافة ترى في التضحية قيمة عليا، وهنا يصبح السؤال الأهم: كيف نجعل هذه الثقافة ممتدة إلى ما هو أبعد من لحظات الأزمات والمواقف الحرجة ؟ كيف تصبح البطولة فعلًا مستمرًا لا يرتبط فقط بسياقات الحرب والقتال ؟

الإجابة تبدأ من بناء منظومة تعزز الخير في أبسط تفاصيل الحياة اليومية، بحيث لا يكون خيارًا نخبويًا، بل حالة تلقائية عفوية يمارسها الجميع. المسرح المدرسي يمكن أن يكون إحدى الأدوات المهمة في هذا الاتجاه، عبر تقديم قصص تحاكي الواقع العراقي، حيث البطولة لا تتجسد فقط في ميادين القتال، بل في القرار الأخلاقي الذي يتخذه الفرد في موقف يومي بسيط. الإعلام أيضًا يمتلك قدرة هائلة على صناعة النموذج، فمن خلال تسليط الضوء على أفعال الخير، يمكن تحويلها إلى حالة اجتماعية تلقائية. العمل التطوعي، حين يُربط بالمناهج الدراسية، يصبح جزءًا من التكوين النفسي للطلاب، ما يجعلهم ينظرون إلى الفعل الإيجابي باعتباره جزءًا من هويتهم، وليس مجرد تصرف استثنائي. حتى في الخطاب الديني، لا بد من التركيز على البعد التطبيقي للأخلاق، بحيث لا يكون الدين مجرد نصوص تُتلى، بل واقعًا معيشًا يعكس قيم الرحمة والعدالة.

الإنسان، وفق المنظور القرآني، ليس كائنًا مسيّرًا نحو الخير أو الشر، بل هو كيان قادر على اختيار طريقه، بدليل قوله تعالى: “فألهمها فجورها وتقواها”، فالفجور والتقوى كلاهما خيار متاح، والسؤال الذي يجب أن نطرحه ليس فقط عن وجود الخير أو الشر، بل عن العوامل التي تجعل أحدهما هو الخيار السائد. حين تُبرَّر القسوة، تصبح اعتيادية، وحين يُحتفى بالبطولة، تصبح جزءًا من الهوية. العراق اليوم أمام مفترق طرق بين أن يكون مجتمعًا يُنتج أبطالًا بشكل يومي، أو أن يسمح لمنظومات مختلة أن تخلق أجيالًا لا ترى في الفعل الإيجابي سوى لحظة استثنائية. المسألة ليست في انتظار معجزة تُغيّر الواقع، بل في بناء بيئة تُعيد تشكيل الفطرة الإنسانية بحيث يكون الخير هو الخيار الطبيعي، لا الاستثناء.

إغلاق